من كان يتصور أن سائقا صعيديا يعمل فى واحدة من أعرق الشركات المصرية سوف يحمل سلاحا آليا ليقتل ثمانية أشخاص من المسئولين فى الشركة ويصيب عددا آخر فى مشهد يشبه الأفلام الأمريكية وعصابات شيكاغو..
رجل فى هذا العمر وبهذا العدد من الأبناء وبهذا الوضع الاقتصادى الذى وفر له بيتا يملكه وأبناء درسوا فى الجامعات وظروفا حياتية لا بأس بها.. إن هذه الصورة القاتمة تطرح أمامنا سؤالا مخيفا حول أحوال الجريمة فى مصر وقد زادت معدلاتها وتشعبت أنواعها وأصبحت شبحا يطارد الناس فى كل مكان.. ليست هذه هى مصر التى عرفناها وكان الأمن أهم سماتها حتى إن الله سبحانه وتعالى عندما جاء ذكرها فى القرآن الكريم قال تعالى «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»..
أين مصر الأمان التى كانت تمثل النموذج أمام دول العالم فى استقرار شعبها ومنظومة قيمها التى حكمت حياة الناس زمانا طويلا..عند الحديث عن مصر نحن أمام أقدم دولة عرفت الحكومة فى العالم وأمام واحدة من أقدم السلطات المركزية التى عرفت هيمنة الدولة.. وقبل هذا نحن أمام دولة نهرية عاش شعبها على ضفاف نهر قديم فعرفوا معنى الاستقرار والزراعة والإنتاج والعمل وكيف يكون الأمن هو وسيلة هذا البناء والدرع الذى يحميه.
إن مصر مثل كل المجتمعات عرفت مظاهر العنف والجريمة فى فترات مختلفة ولكنها كانت دائما أقل كثيرا من معدلات شعوب ودول أخرى اختلت فيها الموازين والقيم..
إلا أن هذا الوطن المستقر الآمن بدأ يعرف طريقة للجريمة وزاد حجمها وتنوعت أشكالها ما بين جرائم المال والشرف والسرقة والفساد وإن بقيت هناك مجموعة من الأسباب التى وقفت خلف هذه الظاهرة الخطيرة.
لو كان الفقر رجلا لقتلته.. حكمة قالها سيدنا على (رضى الله تعالى عنه) منذ زمان بعيد. إن الفقر هو الأب الشرعى للجريمة وهو الأرض التى يمكن أن تحتوى كل السلوكيات الخاطئة.
إن الفقر لا يعنى قصور الإمكانيات المادية ولكنه يحمل كل مظاهر التلوث فى السلوك والأخلاق والفكر والثقافة وحتى الماء والهواء. لا أحد يعرف فى دائرة القرار فى مصر ما هى معدلات الفقر وما هو متوسط الدخل الذى يمكن أن تتوقف عنده دائرة الفقر بل إنه من الصعب تحديد عدد هؤلاء الذين يمكن أن نقول إنهم فقراء مصر ولكن المؤكد أن اتساع دائرة الفقر ارتبط بدرجة كبيرة باتساع دائرة الجريمة.. ومن يتابع الجرائم التى تشهدها العشوائيات والأحياء الفقيرة سوف يكتشف أنها نوعية واحدة. إن جرائم التحرش الجنسى والاغتصاب تنتشر أكثر فى الأحياء الفقيرة أمام تراجع نسبة الزواج والعنوسة، وفى أحد تقارير المركز القومى للبحوث تؤكد دراسة أخيرة أن مصر تشهد سنويا 30 ألف حالة اغتصاب وتحرش جنسى ولعل السبب فى ذلك هو تأخر سن الزواج.
السبب الثانى فى زيادة معدلات الجريمة فى مصر هو البطالة وقد تبدو البطالة فى أوراق خبراء التخطيط والاقتصاد وحتى السياسة ظاهرة اقتصادية أو إدارية ولكنها فى حقيقة جوهرها قضية اجتماعية وسلوكية.. إن ملايين الشباب الذين يطوفون الشوارع والأرصفة ليلا ونهارا يمثلون قنابل موقوتة تسير على الأرض وبين الناس.
وإذا كنا لا نعرف المعدلات الحقيقية للفقر فى مصر فإننا أيضا لا نعرف معدلات البطالة.. هناك من يقول إنها 9 % وهنا من يقول إنها 16% بينما يرى البعض أنها تتجاوز 20%.. وفى كل الحالات فإن معدلات البطالة فى مصر قد وصلت إلى حد الخطر، خاصة أننا نتحدث عن مجتمع أغلبيته من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15و35 عاما.. فى ظل البطالة تجد الجريمة أرضا خصبة، والأخطر من ذلك أن هناك ظاهرة تهدد بقوة ملايين الشباب فى مصر وهى المخدرات.. إن آخر الأرقام تقول إن المصريين ينفقون أكثر من 20 مليار جنيه على المخدرات و30 مليار جنيه على السجائر و35 مليار جنيه يتحدثون بها فى التليفون المحمول.. لو أضفنا لذلك ملايين الشباب الذين يبحثون عن فرصة عمل لاكتشفنا أن هذه الأرض هى التى تمهد دائما لانتشار الجريمة.. المخدرات.. والسجائر والبحث عن عمل، وقبل هذا كله منظومة الفقر التى تطارد الجميع.
فى قائمة الأسباب أيضا تقف الأمية التى تؤكد أن فى مصر أكثر من 17 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون وهى من أعلى نسب الأمية فى العالم.. فى دول كثيرة ودعت الشعوب المتقدمة آخر شخص أمى عاش على أرضها.. حدث ذلك منذ سنوات بعيدة ولكن حكومات مصر ابتداء بالحكومات الرشيدة وانتهاء بالحكومة الذكية لم تنجح فى مواجهة هذه المأساة الكبرى التى تسمى الأمية.
لنا أن نتصور سلوكيات الإنسان مع الفقر والبطالة والجهل، هذه الثلاثية المدمرة التى تترك المجتمعات أطلالا فى كل شىء فى السلوك والأخلاق والقيم.. لنا أن نتصور منظومة القيم وهى تتعرض لهذا الاختراق الضارى من شباب جاهل ومجتمع عاطل وعقول وبطون تسيطر عليها أشباح الفقر.. إن 90 % من المتهمين فى قضايا التحرش الجنسى على سبيل المثال فى مصر من العاطلين الذين لا يجدون عملا.
منذ عامين نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تقريرا وصفت فيه مصر بأنها واحدة من أسوأ دول العالم فى نسبة التحرش الجنسى بالنساء فى الشوارع والأماكن العامة وأنها تأتى فى المرتبة الثانية بعد أفغانستان..
كان انتشار العنف أحد الظواهر الحظيرة التى انتشرت فى مصر فى السنوات الماضية حتى أطلق على العام الماضى 2009 عام العنف والجرائم الجنسية؛ حيث شهدت مصر فى أحد التقديرات 120 ألف حالة من الجرائم الجنسية.
من أخطر الأسباب التى أدت إلى انتشار الجريمة فى مصر أيضا الفساد المالى والإدارى والاعتداء على المال العام.. إن جرائم الاعتداء على المال العام فى مصر واحدة من أكثر الظواهر انتشارا.. وهذا النوع من الجرائم لا يرتبط بمستوى الفقر أو الأمية أو البطالة.. إن جرائم الاعتداء على المال العام تعتبر من جرائم الطبقات القادرة أو ما نطلق عليها الصفوة.. ولم تتوقف جرائم هذه الصفوة على نهب الأموال ولكنها انتقلت إلى مظاهر سلوكية خطيرة منها القتل والاغتصاب والسرقة.. ولهذا لم يكن غريبا أن نجد طبيبا شهيرا يقتل شريكه ويقطع جسده أجزاء متناثرة.. أو أن نجد زوجة تقتل أب أبنائها لترث ثروته
.. أو أن نجد أبنا يقتل أمه من أجل المال.. لم تعد الجريمة قاصرة على الطبقات الفقيرة ولكنها انتقلت إلى الطبقات العليا من أصحاب المال والسلطان والجاه والبريق فى ظل هذه المنظومة الخاطئة يمكن أن يقال إن حمى المال اجتاحت حياة المصريين وتوج المال نفسه سلطانا على الجميع.
إنه الحلم الذى يبحث عنه فقراء العشوائيات.. والشباب العاطل على أرصفة الشوارع.. والباحثون عن المخدرات والجنس بأى وسيلة حتى ولو كانت التحرش أو الاغتصاب.
إن المال هو ما يحرك سلطة القرار ولهذا لم يكن غريبا أن يعلن الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال فى شراكة مشبوهة سواء فى أساليب التعامل بيعا وشراء أو أساليب الحكم سلطة وقرارا أو فى هذه التربيطات المشبوهة بين من يملكون سلطة القرار ومن يملكون ويتحكمون فى سلطة المال.
وإذا كان الفقر والجهل والأمية تمثل أرضا خصبة لجرائم العشوائيات فإن الفساد المالى والإدارى فى مؤسسات الحكم يمثل جرائم القادرين من أبناء هذا المجتمع.. هناك من يسرق حبل الغسيل فى حى فقير ولكن هناك من يسرق بنكا فى حى القادرين.. وهناك من يقتل ليسرق شقة.. وهناك من يقتل ليحصل على صفقة.. الفرق بين سارق الشقة وسارق البنك أن الأول قد لا يجد فيها شيئا ثم يقدم للمحاكم ويقضى حياته فى السجن.. أما الثانى فإن حكم البراءة ينتظره فى أى مكان يذهب إليه.
فى السنوات الأخيرة أصبحت جرائم نهب المال العام فى مؤسسات الدولة أكثر من جرائم السطو على البيوت، والغريب أن تجد المهتمين على سطو البيوت فى المحاكم والسجون وتجد قراصنة نهب المال العام يتصدرون المؤتمرات وصفحات الجرائم وشاشات التليفزيون وصور الأفراح والليالى الملاح.
حتى الجريمة أصبحت لها درجات ومواقع وضحايا.
فى مقدمة مسلسل الجريمة فى مصر تأتى جرائم الشرف فى الريف المصرى وجرائم السرقة والنهب فى المدن الكبرى ولا يخلو الأمر من جرائم من نوعية خاصة فى مقدمتها «زنا المحارم» وهى من الظواهر الإجرامية الجديدة على المصريين أمام فساد منظومة القيم والفقر وسكان العشوائيات وانتشار المخدرات والزحام..
فى زمان مضى كان المجتمع المصرى أكثر انفتاحا وكانت الجريمة فى حدود ضيفة للغاية.. ولكن الغريب الآن أن المجتمع المصرى يبدو أكثر تشددا وتدينا وانغلاقا ورغم هذا تنتشر الجريمة.. لا نستطيع أن نتجاهل الزيادة السكانية وان الجرائم بين 80 مليون مواطن لا يمكن أن تتساوى مع 20 مليون مواطن.. ومع زيادة العدد فى السكان اختلفت وتنوعت صور الجريمة من مكان لآخر وبين مجتمع منغلق وآخر منفتح.
كان الدين فى يوم من الأيام أحد القلاع التى تحتمى فيها المجتمعات من نوازع الشر بين البشر.. وكانت الآثار النفسية والسلوكية التى تحكمها قواعد الدين ونواهية من أهم الأسباب التى تقف أمام انتشار الجرائم ولكن الغريب فى الأمر أن تزداد الجرائم مع ظاهرة التشدد الدينى.. وهذا يؤكد أن الدين المظهر يختلف تماما فى سلوكياته وتعاملاته عن الدين الجوهر وأن العبرة ليست فى القول ولكن العبرة فى الفعل، فما أكثر الأقوال وما أقل الأفعال.
هنا يمكن أن نتحدث عن أشياء غابت فى مقدمتها الضمير.. هذا الكائن الحى الذى قد لا نراه ولكننا نشعر به معنا فى كل مكان..
أمام غياب الضمير غابت أشياء كثيرة كانت تمثل حاجزا نفسيا خطيرا يحمى الإنسان من نوازع الشر فى نفسه وفى الآخرين..
غابت مع الضمير كلمة بسيطة أسمها الرحمة بكل ما تمثله من جوانب المودة والعطاء والترفع.. ومع غياب الرحمة انتشرت أعشاب الكراهية لتفقد المجتمعات أهم جوانب التواصل والمشاركة.
كان من بين الأسباب التى أدت إلى انتشار الجريمة إهدار قيمة إنسانية عظيمة تسمى العدالة.. لقد غابت العدالة أمام مجتمع يخشى القوى سواء كان صاحب مال أو سلطان ويهدر حق الضعيف فى أبسط احتياجاته طعاما وسكنا ورعاية صحية.. مع غياب العدالة أهدر المجتمع منظومة تكافؤ الفرض فلم تعد قدرات الإنسان تقاس بمواهبه وقدراته ولكنها تقاس بأصله ونسبه وعائلته وماله ومنصبة وحسبه.
انسحب فقراء المال وبسطاء الأصل من أصحاب القدرات والمواهب من الساحة وهنا أيضا انتشرت معدلات الجريمة.. حين يعجز الإنسان عن الحصول على حقه فى العمل أو الحلم أو المكانة يسعى لأن يحصل عليه بالقوة.. إنه يسرق المجتمع الذى حرمه من حقوقه.. ويستبيح أصول هذا المجتمع الذى أهدر آدميته تحت أقدام الآخرين.. وعندما يعجز الإنسان عن الحصول على حقه بالقانون فإنه يحاول أن يحصل عليه بيده وهنا أيضا تكون الجريمة.
لا نستطيع فى النهاية أن نتجاهل تجاوزات الدولة ضد مواطنيها سواء فى أجهزة الأمن أو فى مؤسسات لا تؤدى عملها فى خدمة المواطن أو فى حقوق تمثل البديهيات التى لا ينبغى تجاهلها فى التعليم أو الصحة أو السكن أو الأمن أو الاحساس بالآدمية.. حين تعجز الدولة عن توفير هذه المتطلبات تفقد هيبتها أمام مواطنيها وحين تفقد الدولة هيبتها فإنها تفتح أبوابا كثيرة للأخطاء والتجاوزات والجرائم.
ومع غياب منظومة الثوابت فى الدين منعا وتحريما.. وفى العدالة واجبات وحقوق وفى الإحساس بالأمن للمخطئ والمصيب.. هنا يمكن أن تختل منظومة الأخلاق والضمير والمسئولية ونجد أنفسنا أمام ثوابت كاذبة وبديلة.. إن السرقة تتحول فى ظل ذلك إلى ذكاء اجتماعى.. والكذب يتحول إلى وسيلة لتبرير أخطاء صغيرة.. والاعتداء على حقوق الآخرين مكاسب سريعة.. كما أن اختلال المعايير يعطى فرصا لمعايير جديدة خاطئة ولكنها قادرة على ترسيخ مفاهيم تقبلها المجتمعات فى حالات الضعف والتخلف والترهل والتراخى..
هذه المفاهيم الخاطئة تجعل الجريمة أحيانا وسيلتها للوصول إلى أهدافها بحيث تصبح أشياء راسخة فى حياة المجتمع.
وللأسف الشديد أننا أصبحنا نتقبل هذه المفاهيم ونغمض أعيننا عن أن نرصدها ونراها.. فالسرقة فهلوة.. والكذب ذكاء اجتماعى.. وإهدار القوانين قوة.. والإفراط فى استخدام السلطة تأكيد لسطوة الأمن.. كل هذه الظواهر كانت تترك خلفها تلالا من الأخطاء بعضها أخذ شكل الجريمة والبعض الآخر استطاع أن يتحول إلى ظواهر اجتماعية وسلوكية لا يرفضها المجتمع رغم أنه لا يرضاها.
هذا الاستسلام لخطايا وأخطاء الواقع الاجتماعى والاقتصادى والفكرى بكل ما فيه من سلبيات جعل الجريمة أحيانا جزءا لا يتجزأ من هذا السياق.. إننا ندينها ولكننا لا نخجل من أن نفعلها.. ونقف ضدها ولكننا كثيرا ما نتستر عليها ونعرف أنها أخطاء ولكننا غير قادرين على أن نمارس الأشياء الصحيحة.
فى هذه الحالة يمكن أن تتحول الجريمة إلى شىء مشروع فى نظر البعض خاصة إذا كان لها ما يبررها فى هذا الواقع القبيح وإذا سألت المجرم المدان لماذا فعلت ذلك يقول لك إنه الواقع الاجتماعى الذى جعلنى مجرما فأنا لم أحاول ذلك ولم أولد مجرما بالفطرة ولكن عليك أن تسأل معدلات الفقر والبطالة والأمية والمخدرات وغياب العدالة وامتهان الضمير وسقوط هيبة الدولة عندما تخلت عن واجباتها الأصلية فى توفير الحياة الكريمة لمواطنيها.
سيقول لك المجرم أى مجرم عليك أن تحاسب هؤلاء جميعا لتعرف أسباب الجريمة وإذا بقى سبب واحد ضدى يحق لك أن تحاسبنى..
قبل أن نطرح الظاهرة علينا أن نبحث أولا عن أسبابها لأننا إذا استطعنا إلغاء الأسباب فسوف نجد نتائج أخرى غير ما نراه الآن.. إذا سقطت أسباب الجرائم.. فلن تكون هناك جرائم لأنه لا يوجد إنسان مجرم بشهادة الميلاد.
رجل فى هذا العمر وبهذا العدد من الأبناء وبهذا الوضع الاقتصادى الذى وفر له بيتا يملكه وأبناء درسوا فى الجامعات وظروفا حياتية لا بأس بها.. إن هذه الصورة القاتمة تطرح أمامنا سؤالا مخيفا حول أحوال الجريمة فى مصر وقد زادت معدلاتها وتشعبت أنواعها وأصبحت شبحا يطارد الناس فى كل مكان.. ليست هذه هى مصر التى عرفناها وكان الأمن أهم سماتها حتى إن الله سبحانه وتعالى عندما جاء ذكرها فى القرآن الكريم قال تعالى «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»..
أين مصر الأمان التى كانت تمثل النموذج أمام دول العالم فى استقرار شعبها ومنظومة قيمها التى حكمت حياة الناس زمانا طويلا..عند الحديث عن مصر نحن أمام أقدم دولة عرفت الحكومة فى العالم وأمام واحدة من أقدم السلطات المركزية التى عرفت هيمنة الدولة.. وقبل هذا نحن أمام دولة نهرية عاش شعبها على ضفاف نهر قديم فعرفوا معنى الاستقرار والزراعة والإنتاج والعمل وكيف يكون الأمن هو وسيلة هذا البناء والدرع الذى يحميه.
إن مصر مثل كل المجتمعات عرفت مظاهر العنف والجريمة فى فترات مختلفة ولكنها كانت دائما أقل كثيرا من معدلات شعوب ودول أخرى اختلت فيها الموازين والقيم..
إلا أن هذا الوطن المستقر الآمن بدأ يعرف طريقة للجريمة وزاد حجمها وتنوعت أشكالها ما بين جرائم المال والشرف والسرقة والفساد وإن بقيت هناك مجموعة من الأسباب التى وقفت خلف هذه الظاهرة الخطيرة.
لو كان الفقر رجلا لقتلته.. حكمة قالها سيدنا على (رضى الله تعالى عنه) منذ زمان بعيد. إن الفقر هو الأب الشرعى للجريمة وهو الأرض التى يمكن أن تحتوى كل السلوكيات الخاطئة.
إن الفقر لا يعنى قصور الإمكانيات المادية ولكنه يحمل كل مظاهر التلوث فى السلوك والأخلاق والفكر والثقافة وحتى الماء والهواء. لا أحد يعرف فى دائرة القرار فى مصر ما هى معدلات الفقر وما هو متوسط الدخل الذى يمكن أن تتوقف عنده دائرة الفقر بل إنه من الصعب تحديد عدد هؤلاء الذين يمكن أن نقول إنهم فقراء مصر ولكن المؤكد أن اتساع دائرة الفقر ارتبط بدرجة كبيرة باتساع دائرة الجريمة.. ومن يتابع الجرائم التى تشهدها العشوائيات والأحياء الفقيرة سوف يكتشف أنها نوعية واحدة. إن جرائم التحرش الجنسى والاغتصاب تنتشر أكثر فى الأحياء الفقيرة أمام تراجع نسبة الزواج والعنوسة، وفى أحد تقارير المركز القومى للبحوث تؤكد دراسة أخيرة أن مصر تشهد سنويا 30 ألف حالة اغتصاب وتحرش جنسى ولعل السبب فى ذلك هو تأخر سن الزواج.
السبب الثانى فى زيادة معدلات الجريمة فى مصر هو البطالة وقد تبدو البطالة فى أوراق خبراء التخطيط والاقتصاد وحتى السياسة ظاهرة اقتصادية أو إدارية ولكنها فى حقيقة جوهرها قضية اجتماعية وسلوكية.. إن ملايين الشباب الذين يطوفون الشوارع والأرصفة ليلا ونهارا يمثلون قنابل موقوتة تسير على الأرض وبين الناس.
وإذا كنا لا نعرف المعدلات الحقيقية للفقر فى مصر فإننا أيضا لا نعرف معدلات البطالة.. هناك من يقول إنها 9 % وهنا من يقول إنها 16% بينما يرى البعض أنها تتجاوز 20%.. وفى كل الحالات فإن معدلات البطالة فى مصر قد وصلت إلى حد الخطر، خاصة أننا نتحدث عن مجتمع أغلبيته من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15و35 عاما.. فى ظل البطالة تجد الجريمة أرضا خصبة، والأخطر من ذلك أن هناك ظاهرة تهدد بقوة ملايين الشباب فى مصر وهى المخدرات.. إن آخر الأرقام تقول إن المصريين ينفقون أكثر من 20 مليار جنيه على المخدرات و30 مليار جنيه على السجائر و35 مليار جنيه يتحدثون بها فى التليفون المحمول.. لو أضفنا لذلك ملايين الشباب الذين يبحثون عن فرصة عمل لاكتشفنا أن هذه الأرض هى التى تمهد دائما لانتشار الجريمة.. المخدرات.. والسجائر والبحث عن عمل، وقبل هذا كله منظومة الفقر التى تطارد الجميع.
فى قائمة الأسباب أيضا تقف الأمية التى تؤكد أن فى مصر أكثر من 17 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون وهى من أعلى نسب الأمية فى العالم.. فى دول كثيرة ودعت الشعوب المتقدمة آخر شخص أمى عاش على أرضها.. حدث ذلك منذ سنوات بعيدة ولكن حكومات مصر ابتداء بالحكومات الرشيدة وانتهاء بالحكومة الذكية لم تنجح فى مواجهة هذه المأساة الكبرى التى تسمى الأمية.
لنا أن نتصور سلوكيات الإنسان مع الفقر والبطالة والجهل، هذه الثلاثية المدمرة التى تترك المجتمعات أطلالا فى كل شىء فى السلوك والأخلاق والقيم.. لنا أن نتصور منظومة القيم وهى تتعرض لهذا الاختراق الضارى من شباب جاهل ومجتمع عاطل وعقول وبطون تسيطر عليها أشباح الفقر.. إن 90 % من المتهمين فى قضايا التحرش الجنسى على سبيل المثال فى مصر من العاطلين الذين لا يجدون عملا.
منذ عامين نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تقريرا وصفت فيه مصر بأنها واحدة من أسوأ دول العالم فى نسبة التحرش الجنسى بالنساء فى الشوارع والأماكن العامة وأنها تأتى فى المرتبة الثانية بعد أفغانستان..
كان انتشار العنف أحد الظواهر الحظيرة التى انتشرت فى مصر فى السنوات الماضية حتى أطلق على العام الماضى 2009 عام العنف والجرائم الجنسية؛ حيث شهدت مصر فى أحد التقديرات 120 ألف حالة من الجرائم الجنسية.
من أخطر الأسباب التى أدت إلى انتشار الجريمة فى مصر أيضا الفساد المالى والإدارى والاعتداء على المال العام.. إن جرائم الاعتداء على المال العام فى مصر واحدة من أكثر الظواهر انتشارا.. وهذا النوع من الجرائم لا يرتبط بمستوى الفقر أو الأمية أو البطالة.. إن جرائم الاعتداء على المال العام تعتبر من جرائم الطبقات القادرة أو ما نطلق عليها الصفوة.. ولم تتوقف جرائم هذه الصفوة على نهب الأموال ولكنها انتقلت إلى مظاهر سلوكية خطيرة منها القتل والاغتصاب والسرقة.. ولهذا لم يكن غريبا أن نجد طبيبا شهيرا يقتل شريكه ويقطع جسده أجزاء متناثرة.. أو أن نجد زوجة تقتل أب أبنائها لترث ثروته
.. أو أن نجد أبنا يقتل أمه من أجل المال.. لم تعد الجريمة قاصرة على الطبقات الفقيرة ولكنها انتقلت إلى الطبقات العليا من أصحاب المال والسلطان والجاه والبريق فى ظل هذه المنظومة الخاطئة يمكن أن يقال إن حمى المال اجتاحت حياة المصريين وتوج المال نفسه سلطانا على الجميع.
إنه الحلم الذى يبحث عنه فقراء العشوائيات.. والشباب العاطل على أرصفة الشوارع.. والباحثون عن المخدرات والجنس بأى وسيلة حتى ولو كانت التحرش أو الاغتصاب.
إن المال هو ما يحرك سلطة القرار ولهذا لم يكن غريبا أن يعلن الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال فى شراكة مشبوهة سواء فى أساليب التعامل بيعا وشراء أو أساليب الحكم سلطة وقرارا أو فى هذه التربيطات المشبوهة بين من يملكون سلطة القرار ومن يملكون ويتحكمون فى سلطة المال.
وإذا كان الفقر والجهل والأمية تمثل أرضا خصبة لجرائم العشوائيات فإن الفساد المالى والإدارى فى مؤسسات الحكم يمثل جرائم القادرين من أبناء هذا المجتمع.. هناك من يسرق حبل الغسيل فى حى فقير ولكن هناك من يسرق بنكا فى حى القادرين.. وهناك من يقتل ليسرق شقة.. وهناك من يقتل ليحصل على صفقة.. الفرق بين سارق الشقة وسارق البنك أن الأول قد لا يجد فيها شيئا ثم يقدم للمحاكم ويقضى حياته فى السجن.. أما الثانى فإن حكم البراءة ينتظره فى أى مكان يذهب إليه.
فى السنوات الأخيرة أصبحت جرائم نهب المال العام فى مؤسسات الدولة أكثر من جرائم السطو على البيوت، والغريب أن تجد المهتمين على سطو البيوت فى المحاكم والسجون وتجد قراصنة نهب المال العام يتصدرون المؤتمرات وصفحات الجرائم وشاشات التليفزيون وصور الأفراح والليالى الملاح.
حتى الجريمة أصبحت لها درجات ومواقع وضحايا.
فى مقدمة مسلسل الجريمة فى مصر تأتى جرائم الشرف فى الريف المصرى وجرائم السرقة والنهب فى المدن الكبرى ولا يخلو الأمر من جرائم من نوعية خاصة فى مقدمتها «زنا المحارم» وهى من الظواهر الإجرامية الجديدة على المصريين أمام فساد منظومة القيم والفقر وسكان العشوائيات وانتشار المخدرات والزحام..
فى زمان مضى كان المجتمع المصرى أكثر انفتاحا وكانت الجريمة فى حدود ضيفة للغاية.. ولكن الغريب الآن أن المجتمع المصرى يبدو أكثر تشددا وتدينا وانغلاقا ورغم هذا تنتشر الجريمة.. لا نستطيع أن نتجاهل الزيادة السكانية وان الجرائم بين 80 مليون مواطن لا يمكن أن تتساوى مع 20 مليون مواطن.. ومع زيادة العدد فى السكان اختلفت وتنوعت صور الجريمة من مكان لآخر وبين مجتمع منغلق وآخر منفتح.
كان الدين فى يوم من الأيام أحد القلاع التى تحتمى فيها المجتمعات من نوازع الشر بين البشر.. وكانت الآثار النفسية والسلوكية التى تحكمها قواعد الدين ونواهية من أهم الأسباب التى تقف أمام انتشار الجرائم ولكن الغريب فى الأمر أن تزداد الجرائم مع ظاهرة التشدد الدينى.. وهذا يؤكد أن الدين المظهر يختلف تماما فى سلوكياته وتعاملاته عن الدين الجوهر وأن العبرة ليست فى القول ولكن العبرة فى الفعل، فما أكثر الأقوال وما أقل الأفعال.
هنا يمكن أن نتحدث عن أشياء غابت فى مقدمتها الضمير.. هذا الكائن الحى الذى قد لا نراه ولكننا نشعر به معنا فى كل مكان..
أمام غياب الضمير غابت أشياء كثيرة كانت تمثل حاجزا نفسيا خطيرا يحمى الإنسان من نوازع الشر فى نفسه وفى الآخرين..
غابت مع الضمير كلمة بسيطة أسمها الرحمة بكل ما تمثله من جوانب المودة والعطاء والترفع.. ومع غياب الرحمة انتشرت أعشاب الكراهية لتفقد المجتمعات أهم جوانب التواصل والمشاركة.
كان من بين الأسباب التى أدت إلى انتشار الجريمة إهدار قيمة إنسانية عظيمة تسمى العدالة.. لقد غابت العدالة أمام مجتمع يخشى القوى سواء كان صاحب مال أو سلطان ويهدر حق الضعيف فى أبسط احتياجاته طعاما وسكنا ورعاية صحية.. مع غياب العدالة أهدر المجتمع منظومة تكافؤ الفرض فلم تعد قدرات الإنسان تقاس بمواهبه وقدراته ولكنها تقاس بأصله ونسبه وعائلته وماله ومنصبة وحسبه.
انسحب فقراء المال وبسطاء الأصل من أصحاب القدرات والمواهب من الساحة وهنا أيضا انتشرت معدلات الجريمة.. حين يعجز الإنسان عن الحصول على حقه فى العمل أو الحلم أو المكانة يسعى لأن يحصل عليه بالقوة.. إنه يسرق المجتمع الذى حرمه من حقوقه.. ويستبيح أصول هذا المجتمع الذى أهدر آدميته تحت أقدام الآخرين.. وعندما يعجز الإنسان عن الحصول على حقه بالقانون فإنه يحاول أن يحصل عليه بيده وهنا أيضا تكون الجريمة.
لا نستطيع فى النهاية أن نتجاهل تجاوزات الدولة ضد مواطنيها سواء فى أجهزة الأمن أو فى مؤسسات لا تؤدى عملها فى خدمة المواطن أو فى حقوق تمثل البديهيات التى لا ينبغى تجاهلها فى التعليم أو الصحة أو السكن أو الأمن أو الاحساس بالآدمية.. حين تعجز الدولة عن توفير هذه المتطلبات تفقد هيبتها أمام مواطنيها وحين تفقد الدولة هيبتها فإنها تفتح أبوابا كثيرة للأخطاء والتجاوزات والجرائم.
ومع غياب منظومة الثوابت فى الدين منعا وتحريما.. وفى العدالة واجبات وحقوق وفى الإحساس بالأمن للمخطئ والمصيب.. هنا يمكن أن تختل منظومة الأخلاق والضمير والمسئولية ونجد أنفسنا أمام ثوابت كاذبة وبديلة.. إن السرقة تتحول فى ظل ذلك إلى ذكاء اجتماعى.. والكذب يتحول إلى وسيلة لتبرير أخطاء صغيرة.. والاعتداء على حقوق الآخرين مكاسب سريعة.. كما أن اختلال المعايير يعطى فرصا لمعايير جديدة خاطئة ولكنها قادرة على ترسيخ مفاهيم تقبلها المجتمعات فى حالات الضعف والتخلف والترهل والتراخى..
هذه المفاهيم الخاطئة تجعل الجريمة أحيانا وسيلتها للوصول إلى أهدافها بحيث تصبح أشياء راسخة فى حياة المجتمع.
وللأسف الشديد أننا أصبحنا نتقبل هذه المفاهيم ونغمض أعيننا عن أن نرصدها ونراها.. فالسرقة فهلوة.. والكذب ذكاء اجتماعى.. وإهدار القوانين قوة.. والإفراط فى استخدام السلطة تأكيد لسطوة الأمن.. كل هذه الظواهر كانت تترك خلفها تلالا من الأخطاء بعضها أخذ شكل الجريمة والبعض الآخر استطاع أن يتحول إلى ظواهر اجتماعية وسلوكية لا يرفضها المجتمع رغم أنه لا يرضاها.
هذا الاستسلام لخطايا وأخطاء الواقع الاجتماعى والاقتصادى والفكرى بكل ما فيه من سلبيات جعل الجريمة أحيانا جزءا لا يتجزأ من هذا السياق.. إننا ندينها ولكننا لا نخجل من أن نفعلها.. ونقف ضدها ولكننا كثيرا ما نتستر عليها ونعرف أنها أخطاء ولكننا غير قادرين على أن نمارس الأشياء الصحيحة.
فى هذه الحالة يمكن أن تتحول الجريمة إلى شىء مشروع فى نظر البعض خاصة إذا كان لها ما يبررها فى هذا الواقع القبيح وإذا سألت المجرم المدان لماذا فعلت ذلك يقول لك إنه الواقع الاجتماعى الذى جعلنى مجرما فأنا لم أحاول ذلك ولم أولد مجرما بالفطرة ولكن عليك أن تسأل معدلات الفقر والبطالة والأمية والمخدرات وغياب العدالة وامتهان الضمير وسقوط هيبة الدولة عندما تخلت عن واجباتها الأصلية فى توفير الحياة الكريمة لمواطنيها.
سيقول لك المجرم أى مجرم عليك أن تحاسب هؤلاء جميعا لتعرف أسباب الجريمة وإذا بقى سبب واحد ضدى يحق لك أن تحاسبنى..
قبل أن نطرح الظاهرة علينا أن نبحث أولا عن أسبابها لأننا إذا استطعنا إلغاء الأسباب فسوف نجد نتائج أخرى غير ما نراه الآن.. إذا سقطت أسباب الجرائم.. فلن تكون هناك جرائم لأنه لا يوجد إنسان مجرم بشهادة الميلاد.
السبت فبراير 06, 2021 1:39 pm من طرف محمود العياط
» ديوان حصان فى مرماح
الأحد يونيو 24, 2018 2:08 pm من طرف محمود العياط
» ديوان راشيا الوادي محمود العياط
الخميس مايو 11, 2017 1:38 pm من طرف محمود العياط
» ديوان لسن لفـأ رقم 29
الخميس فبراير 02, 2017 7:49 am من طرف محمود العياط
» قصيدة مسقط العامرة تضج بالضياء
السبت يوليو 23, 2016 12:59 pm من طرف محمود العياط
» ايجار سيارات استرتش * ليموزين * للزفاف العرائس
الإثنين مارس 23, 2015 6:21 am من طرف رضوى رودى
» • ايجار ليموزين مصر شركة العلا للسياحة .
الإثنين ديسمبر 08, 2014 1:50 am من طرف رضوى رودى
» • أرقام شركات ومكاتب ايجارسيارات بمصر 01008383000
الأربعاء ديسمبر 03, 2014 8:03 am من طرف رضوى رودى
» • مع العلا ليموزين تأجر جميع السيارات بأحدث المودي
الخميس نوفمبر 13, 2014 7:08 am من طرف رضوى رودى